Tuesday, March 14, 2017

جديد ارثوذكس : من القمة للسقوط - وجه جديد لمثل الابن تارك بيت أبيه الجزء الأول


الابن الضال وسرّ السقوط ورحلة العودة (لوقا 15)

(الجزء الأول من القمة للسقوط - وجه جديد لمثل الابن تارك بيت أبيه)


أريد اليوم أن نسير معاً بصورة عميقة واقعية – من جهة الخبرة – في رحلة الابن الذي لم يضل بل بإرادته سعى أن يخرج من بيت أبيه، فتغرَّب وصار نزيلاً في كورة بعيدة ثم عاد إلى مكانته الأولى بعد أن عاد إلى نفسه، أي عودته إلى بيت أبيه الذي هو بيته ومكانه الأصلي الطبيعي، فهذا المثل مُميز لأنه لا يخص الغرباء عن الله الضالين بدون وعي منهم أو إرادة، لكنه مثل يخص الإنسان الذي تربى وسط أسرته، لأننا لو ركزنا في هذا المثل المتسع للغاية سنجد أن صفة الإنسان الذي يتكلم عنه هنا، أنه في الأساس كان يحيا طبيعياً في بيت أبيه كابن، لأنه لم يكن فيه عبداً أو نزيلاً كأنه فندق ولا كان لقيطاً أو وجد في شوارع المدينة وتحنن عليه سيداً عظيماً واعتبره بمثابه ابنه، بل كان من أهل البيت فعلياً، وطبيعة حياته ابن خاص لأبيه، كل ما لأبيه فهو لهُ، فكان يتمتع بكامل حياة البنوة المُميزة وكمال حريتها، لأن البنوة هي رتبته الخاصة، لذلك فأن حالة تركه البيت ليتغرب في مكان آخر بمثابة السقوط من رتبته الأولى، وتخليه عن مكانته الطبيعية باختياره ليكون في مكان آخر غريب عن طبيعة أصله الكريم وأخلاقه التي تربى عليها، وعاش برتبة أُخرى صارت في عينيه رتبة عظيمة إذ صار سيداً لنفسه، حُراً في التصرف بأمواله ويستثمره كما شاء حسب رؤيته الخاصة لإسعاد نفسه ليكتمل فرحه:
+ وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ (من تقسيم الميراث) جَمَعَ الاِبْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ
وهنا نجد الفضول الذي دفعه لاكتشاف عالم آخر بعيد عن حضن أبيه هو أساس جوهر المشكلة، لأنه وضع غريب وغير طبيعي بل وشاذ للغاية، لأنه خُدع بسبب المسرة الزائفة الوقتية التي اعتقد أنه سيجدها وتدوم معهُ، وهذا ما كان يدور في مخيلته كما نفعل أحياناً كثيرة لأن الظنون تعترينا وتصورات قلوبنا تخدعنا لأن اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ مَنْ يَعْرِفُهُ! (إرميا 17: 9)، لكنه – في النهاية على مستوى الواقع – صُدم وأحلامه انهارت تماماً، إذ سُلب منه كل ما يملكه لأنه عاش بإسراف ليتلذذ ويحيا كما شاء بحرية بعيداً عن والده الذي كان يراه مُقدياً لحريته، ثم لم يجد سوى مجاعة عظيمة ولم يراعيه أو يهتم به أحد قط، بل الجميع تخلوا عنه وتركوه ليجوع ويعطش ويشعر بالعوز الشديد ويُذل ويحيا كأقل من عبد في حالة سوء لم يكن يتوقعها على الإطلاق.
+ فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ. فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ.
هنا نرى كارثة مزدوجة، الأولى هي الفلس المُريع المؤدي للجوع، والثانية الالتصاق بواحد من أهل تلك الكورة، ولم يُذكر أنه ذهب ليعمل ليستطيع أن يأكل بل التصق التصاقاً بواحد من الناس، والذي لم يشفق عليه بل ارسله ليرعى الخنازير، ومن الملاحظ هنا أنه أذله، لأنه لم يعطيه ليأكل ويحيا كمجرد عامل، لأنه اشتهى طعام الخنازير الذي لم يحصل عليه، فالجوع جعله يهبط لهذا المستوى المُريع ولم يجد مُعين، لأنه بدل شهوته لتصير شهوة تجاه طعام الحيوان نفسه، وهذه نتيجة حال من يتعلق قلبه بالعالم فأنه يسحقه سحقاً حتى يجعله يشتهي ما هو دنيء ولا يجده فيقع تحت سلطان الموت المتسلط على أركان هذا العالم الضعيف.
ولنلاحظ يا إخوتي حينما يلتصق الإنسان بآخر غير الله فأنه يُذل ذُلاً، لأن كل ما يلتصق به الإنسان يصير معه واحداً، يتبعه ويسير وراءه منقاداً تحت تصرفه، لأنه سلَّم نفسه إليه بالتمام، فأصبحت إرادته مُقيده، مثل من ربط حبلاً برقبة البقرة أو الثور ليسحبه لأي مكان يُريد كما شاء، لأن متى سُلبت الإرادة بسبب الحاجة فأنها لا تُسترد طالما الحاجة هي المسيطر الأول على النفس، لأن بسب احتياجنا تُسلب إرادتنا ولا تُسترد إلا في حالة انتهاء الحاجة وانتفاء الشهوة.
هذه هي قصتي وقصتك، وقصة الإنسان المسيحي المختبر حياة التبني حينما يعوج قلبه ويسير وفق حاجاته ويشتهي حياة العالم ليحيا مثل باقي الناس، وبكون طبيعته ليست من هذا العالم لذلك يُسلب منه كل شيء، التقوى والأخلاق الرفيعة تنهار، لأن العالم مثل الإسفنجة التي تمتص الماء بسرعة مذهلة، هكذا من يندمج ويضع قلبه في الأشياء التي في العالم ويحبها ويحاول أن يكتنزها، فأنها سرعان ما تأكله أكلاً وتبتلعه بلعاً، فتمتص منه كل فضيلة وتسلبه التقوى والعطايا الإلهية كلها، وحتى المحبة الإلهية تُسلب منه والإيمان نفسه يبدأ يتلاشى.
+ الْمُعْتَزِلُ يَطْلُبُ شَهْوَتَهُ. بِكُلِّ مَشُورَةٍ يَغْتَاظُ؛ وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ (أمثال 18: 1؛ يعقوب 1: 14)
+ لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ؛ وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ (1يوحنا 2: 15، 17)
ومن ثمَّ يدخل الإنسان في حالة من الفتور فهو ليس بارداً ولا حاراً لكنه يصير في حالة من الميوعة الغير مقبولة لا لنفسه ولا عند الله ولا حتى عند الناس، لذلك مكتوب:
+ أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّكَ لَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارِداً أَوْ حَارّاً. هَكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي. لأَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَائِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ. أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَباً مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَاباً بِيضاً لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحِّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْلٍ لِكَيْ تُبْصِرَ. إِنِّي كُلُّ مَنْ أُحِبُّهُ أُوَبِّخُهُ وَأُؤَدِّبُهُ. فَكُنْ غَيُوراً وَتُبْ. هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي. (رؤيا 3: 16)
_____ يتبع _____


via †† ارثوذكس †† http://ift.tt/2mnUvKR

0 التعليقات: