Sunday, March 19, 2017

جديد ارثوذكس : رجع إلى نفسه وبداية اليقظة - وجه جديد لمثل الابن تارك بيت أبيه الجزء الثاني



الابن الضال وسرّ السقوط ورحلة العودة
(لوقا 15)

(الجزء الثاني ورجع إلى نفسه، بداية اليقظة - وجه جديد لمثل الابن تارك بيت أبيه)


+ وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ، فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً!
نلاحظ هنا بداية اليقظة، لأنه حينما احتاج لم يُعطى، وهذه هي خدعة الخطية وخدعة العالم، لأن الجذب يأتي من الحاجة – كما قلنا سابقاً – لأن الإنسان ينجذب وينخدع من شهوته، والشهوة متى كمُلت تلد الموت الناتج من امتصاص الحياة من النفس وسلب قوت حياتها الخاص لتفتقر جداً وتهبط لبرودة الجحيم وتحيا في المزلة إذ تفقد كرامتها وعزتها، فكل ما في العالم شهوة جسد وشهوة عيون وتعظم معيشة يجذبون الإنسان حتى يملكون عليه بالتمام حتى يفقد عقله وتعقله فيصير مثل المجنون طاعناً نفسه بأوجاع كثيرة بطياشة ركضه وراء كل ما هو غريب عن طبعه، ثم – في النهاية – يُترك في حالة من خجل العُري لأنه لا يحصل على شيء بل يصير في فقر عظيم فيجد أن كل ما ناله قبض الريح ولا منفعة تحت الشمس لأن الكل باطل.
ونحن الآن علينا أن نعي القانون الذي يحكم العالم الساقط، لأننا نجد دائماً حينما لا نشتهي شيء ولا نُريد شيئاً العالم بشهواته وغناه يُلاحقنا ويلهث وراءنا محاولاً أن يُغرينا بشتى الطرق لكي يُسقطنا، وحينما نركض وراءه ونسعى إليه يهرب منا لكي نظل مشغولين منغمسين في سعي دائم نحوه لا ينقطع، مثل من يربط جزرة شهية ويعلقها بعصى أمام الحصان ليظل يركض وراءها بلا طائل إذ يظن بسعيه إليها سينالها كمكافأة، لذلك ستظل شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة السلاح الفتاك لهلاك النفس وانشغالها لكي تصير في حالة من الإلهاء عن حياتها الحقيقية، وفي النهاية لن تحصل إلا على الهلاك جوعاً.
لكننا نجد في هذه الأحداث أن الجوع والعوز جعل الابن هنا يسترد وعيه ليعود ليفكر في طياشة فعله ويستفيق لكي يعود ويتذكر حاله قبل انعزاله عن أبيه، فهو في كورة بعيدة جائع ولا يهتم به أحد ليعطيه ولو طعام الحيوان نفسه، لأن الإنسان الذي ذاق الغنى وتربى في بيت أبيه الصالح، هو وحده من يشعر بفقره وعوزه، وهذا يختلف تمام الاختلاف عن من تربى وعاش فقيراً منذ البداية فهو لا بشعر بمثل شعور هذا الابن إطلاقاً، ففي وقت المحنة والجوع تذكر بيت أبيه الذي فيه حتى الخُدام والأُجراء لا يجوعون بل يتبقى عنهم الخبز، وهو الآن يهلك من الجوع الشديد، لأن طبيعة النفس الجوعانة أنها دائماً تجد كل مُر حلو في عينيها لأنها تُريد أن تشبع باي طريقة، لذلك كان يشتهي أن يأكل طعام الخنازير.
فيا إخوتي من المستحيل على إنسان أن يبحث عن الشِبع وهو لا يشعر بالجوع، كما أنه من المستحيل أن يذهب للطبيب وهو لا يشعر بالمرض، فالنفس التي تفتقر للغنى السماوي هي وحدها التي تطلبه وتسعى إليه، لذلك حينما جاع الابن فكر في بيت أبيه وعادت إليه ذكرياته التي أثارت أشواق ألهبت قلبه فقرر الرجوع إليه، لا بالكلام ولا بالأفكار بل بالعمل والحركة وقطع الرحلة مهما ما كلف الأمر، لأن الموضوع يخص حياته، بكونه يهلك جوعاً ولا يوجد ما يُشبع نفسه أو يعطيه شيئاً في المكان الذي يعيش فيه.
ويلزمنا هنا أن نعي تعبير "وعاد إلى نفسه" لأنه يعني أنه وجد نفسه لأنه استفاق من غفلته، فالمعنى هنا القصد منه الوصول، أو عودة للنور، أو نور تخلل الظلمة، والنور هنا بمثابة العودة للرشد، يعني عاد لرشده، استنار عقله لأنه استيقظ من غفوته واسترد وعيه، لأنه مكتوب: فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة فيصادفكم ذلك اليوم بغتة (لوقا 21: 34)، لأن من المعروف أن الإنسان حينما ينشغل بمشاكل الحياة وهمومها ينغمس فيها فينسى حياته تماماً ويفقد أبديته، مثل من يشرب الخمر الكثير فيسكر ويغفو غفواً ثقيلاً، ولا يستيقظ منه بسهولة إطلاقاً.

فالابن هنا استيقظ واسترد وعيه وعاد إليه عقله فبدأ يتعقل وتعود إليه الحكمة فبدأ يقيس الأمور بمقياس العقل المستنير، فتذكر ما هو حق وعدل ونطق بصدق قائلاً: "أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي"، لأن بدون هذه اليقظة والشعور باحتياج الأب الحقيقي تستحيل العودة والتحرك الصادق نحو الحياة المفقودة والغنى الدائم:
+ هذا وإنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم، فأن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا، قد تناهى الليل وتقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور، لنسلك بلياقة كما في النهار، لا بالبطر والسكر، لا بالمضاجع والعُهر، لا بالخصام والحسد؛ لذلك يقول استيقظ ايها النائم وقم من الأموات فيُضيء لك المسيح؛ البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات (رومية 13: 11؛ أفسس 5: 14؛ رومية 13: 14)
ولكن من الملاحظ هنا إدراك الابن ووعيه الكامل بالخطأ الذي ارتكبه لذلك استرسل في الكلام واعترف بخطيئته أولاً بينه وبين نفسه ثم قرر أن يكتمل اعترافه أمام أبيه: "أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ"

لذلك علينا أن نعي قوة سرّ الاعتراف الحسن وفاعليته، لأننا أن لم نعي أولاً خطايانا ونعرفها فكيف نأتي لله الحي ونعترف بها، وكيف ندخل في سرّ الغفران الحاضر في كل وقت أن لم يكتمل الاعتراف أمام الله أبينا، لأن بدون اعتراف أمامه كيف نحصل على الشفاء: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1يوحنا 1: 9)، لأن الإنسان الذي لا يعي مرضه ويذهب للطبيب فكيف يعالجه وهو لا يدرك أنه مريض حتى يتحدث للطبيب ويصف علته أمامه، لأن الرب حينما كان يسير وسط الجمع وكثيرين ينادونه كان يسأل كل واحد ماذا تُريد، أترد أن تبرأ، فالمرضى لأنهم يعلمون أنهم مرضى كانوا يأتون إليه لينالوا منه الشفاء، أما من ساروا معه بلا هدف لم يستفيدوا من وجوده وسطهم شيئاً قط، وظلوا كما هم بل وعندما تكلم عن تعبيته وحمل الصليب كثيرين تركوه ومضوا لحال سبيلهم.
فيا إخوتي بدون وقوفنا أمام ابن الله الحي - في مخدعنا الخاص - معترفين بكسر الوصية طالبين شفاء منه شخصياً بصفته طبيب نفوسنا الحقيقي فأننا لن نُشفى من مرض الخطية الخبيث، وعلينا أن نحذر من أن نعترف الاعتراف الكاذب، لأن المريض حينما يذهب للطبيب ويكذب في أعراض مرضه فكيف لهُ أن يُشفيه، أو الإنسان الذي يدعي المرض ويذهب للطبيب ما الذي سيعود عليه من تلك الزيارة!
لذلك علينا أن نقف أمام طبيب نفوسنا ونحن في منتهى الصدق، لا نضع عذراً أو مبرراً لمرضنا القاتل لنفوسنا، لأن المريض ان انشغل ليبرر مرضه لن يُشفى ولن يجد علاج فعال، وايضاً لا ينبغي أن ندَّعي أننا أخطأنا كنوع من التواضع، بل حينما نجد أننا أخطأنا فعلاً نعترف امامه بصدق دون عذر أو تبرير، ولا ندَّعي شيء ليس فينا، لأن هذا ليس اتضاعاً لكنه كذبة كبيرة تجعلنا نخسر الوجود في حضرته، لأن الإنسان المُدعي المرض لا ينتبه إليه الطبيب أو يرعاه.

_____ يتبع _____



via †† ارثوذكس †† http://ift.tt/2mgFWxr

0 التعليقات: